كانت مواقف الأمير سعود الفيصل -رحمه الله- جلية وفاصلة على مدار سنين طويلة تَصَدّر فيها مشهد الدبلوماسية العربية وزير الخارجية المملكة العربية السعودية؛ فمِن رفْضه لرسالة بوتين التي وجّهها للجامعة العربية فيما يخص الشأن السوري، إلى رفضه للغزو الأمريكي للعراق ووقوفه ومساندته لحقّ الكويت في استرجاع سيادتها، إلى مواجهته للصهيانة والأسلحة الفتاكة بالمنطقة، ومقاومته للنعرات وأفكار “الملالي” التخريبية، إلى حقن الدم اللبناني، وصولاً إلى تسامحه في محاولة الاعتداء عليه في القاهرة، لقد كان “الفيصل”، رجل مبدأ وأخلاق وجدّية تُرهق محيطيه، كافح الإرهاب واستشرف المستقبل.
ذكاء وخلق
عُرف “الفيصل” طوال مسيرته الممتدة بدماثة الأخلاق، وحُسن المعشر، والاطلاع والإلمام الواسع، والذكاء الحادّ، والعزيمة التي لا تلين ولا تعرف اليأس أو الاستسلام؛ فقد كان جريئاً في الحق، يعمل بصمت، ويحرص على تحقيق النتائج المتوخاة، ولا يقلل من قيمة التفاصيل، متميز في قدرته على الاتصال والتركيز، إذا تَحَدّث سَمِعه الجميع، يخاطب العقل والقلب، متزين بالأدب والفلسفة، غزير في ثقافته ومعرفته، ذو خبرة واسعة واطلاع في العمل السياسي والدبلوماسي؛ حتى أضحى مدرسة أصيلة في مجال العلاقات الدولية والسياسية، وكان في أصعب الأحداث والأزمات رصيناً ثابتاً واضحاً في مواقفه، شديداً من غير عنف، وليناً من غير ضعف.
صحتي والأمة سواء
ويشهد الجميع -حتى المخالفون له- أنه كان مدرسة ينهل منها الجميع أسباب المعرفة والثقافة، وقد أدركه المرض وهو يعمل بكل جهد واقتدار دفاعاً عن قضايا وطنه وأمته، ولم يقلل المرض من عزيمته وإدراكه؛ بل كافح بكل ما يستطيع لتحقيق تطلعات وآمال أمته الكبيرة؛ حيث وصف الفقيد، في آخر لقاء له في مجلس الشورى، حالته الصحية أثناء إجرائه عملية جراحية بأنها كانت تشبه حالة أمته، وهذا التشبيه ليس بمستغرب على سعود الفيصل الذي اختار أن ينغمس في هموم أمته العربية بكل تفاصيلها وقضاياها.
على خطى والده
تَرَبّى فقيد الوطن ونشأ في كنف المغفور له -بإذن الله- الملك فيصل بن عبدالعزيز، وعلى خطى والده سار، كان شغله الشاغل وقضيته الأولى وطنه وأمته العربية والإسلامية؛ متطلعاً إلى أن تستعيد هذه الأمة في يوم من الأيام زمام المبادرة وتحتل مكاناً وموضعاً متقدماً بين الأمم.
هل يقتل الحاكم شعبه؟!
ويتذكر الجميع الفقيد وحسرته على العرب والعروبة وما آل إليه حالهم، عندما كان يخاطب وزراء الخارجية العرب في اجتماعاتهم التي عُقدت في القاهرة، عن الوضع بشأن سوريا وما وصل إليه نظام الأسد من تبجح وتنكيل بشعبه؛ حيث تساءل محفزاً عروبتهم وبكل حرقة: “هل مِنَ الشيم العربية أن يقتل الحاكم شعبه؟ وهل مهمة الجيوش أن تفتك بمواطنيها أم تحميهم وتحمي أعراضهم وممتلكاتهم وتحفظ أمنهم واستقرارهم؟”؛ مؤكداً أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، ومشدداً على ذلك بقوله: “نحن لن نقبل بأي حال من الأحوال أن نكون شهداء زور، أو أن يستخدمنا أحد لتبرير جرائمه المرتكبة في حق الشعب السوري الشقيق أو التغطية والتستر عليه”.
رسالة “بوتين”
وفي السياق نفسه، كانت ملاحظاته -يرحمه الله- على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي أرسلها إلى القمة العربية في دورتها السادسة والعشرين التي عُقدت في مدينة شرم الشيخ بمصر، وكانت فحوى الرسالة أن منطقة الشرق الأوسط تعيش متغيرات وتحديات سياسية ومخاطر اقتصادية واجتماعية معقدة، وأن روسيا تربطها علاقات تقليدية وصداقة مع العالم العربي، وأنها تقف إلى جانب الشعوب العربية في تحقيق طموحاتها نحو مستقبل واعد، وتسوية القضايا التي يواجهها العالم العربي بالطرق السلمية دون أي تدخل خارجي ومكافحة الإرهاب.
هل استخفاف بالعرب؟!
حيث طلب “الفيصل” المداخلة للرد على هذه الرسالة فقال: “لديّ ملاحظات على الرسالة التي وردت من الرئيس الروسي، وهو يتكلم عن المشاكل التي يمر بها الشرق الأوسط؛ وكأن روسيا ليست مؤثرة على هذه المشاكل، وعلى سبيل المثال الوضع الحالي في سوريا؛ الروس يتكلمون عن المآسي والأوضاع في سوريا بينما هم جزء من تلك المآسي التي تمسّ الشعب السوري، عندما يمنحون النظام السوري من الأسلحة ما هو فوق حاجته لمحاربة الشعب، يمنحونه الأسلحة الاستراتيجية؛ حتى إن هناك تقارير تتحدث عن أنهم يمنحون النظام أسلحة ضد الأنظمة الدولية التي تحدّ من الأسلحة الفتاكة؛ خاصة أن القانون الروسي نفسه يمنع روسيا من بيع السلاح للدول التي تستخدمه في الهجوم وليس في الدفاع.
وأضاف: “كيف نستطيع أن نأخذ ما يعرضه علينا جميعاً؟ هل هو استخفاف بآراء ومصلحة الشعب العربي في سوريا؟ هل هو عدم الشعور بالكارثة التي حدثت في سوريا باستخدام الأسلحة الروسية؟ ألا يجوز له وهو صاحب القرار وصاحب الخيار في جنيف 1 و2، المساعدة في البحث عن حل المشكلة؟ ألا يحق لنا أن نسأله كيف له أن يدعو للحل السلمي وفي الوقت نفسه يستمر في دعم النظام وهو أحد الطرفين؟ مع أن النظام فَقَدَ شرعيته وفَقَدَ كل ما لديه من اتصالات بالعالم المتحضر؟”.
تسامح في اعتداء
وفي سياق آخر يكشف تحضر وتحلي “الفيصل” بشيم العفو عند المقدرة؛،ما يرتبط بمحاولة الاعتداء الفاشل التي تعرض لها الراحل عام 2003م عندما كان يهم -رحمه الله- بدخول الفندق الذي كان يقيم فيه في القاهرة إبان حضوره الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية؛ حيث اعترض الفقيد عدد من السفهاء من جنسية محددة محاولين الاعتداء والتهجم عليه، وتدارك الأمر أفراد الأمن المرافق، وقامت الجهات المختصة على الفور بالقبض عليهم ومحاكمتهم وترحيلهم للسجن، وبعد مضيّ فترة بسيطة على سجنهم، اتصل الراحل بسفير المملكة بالقاهرة؛ مخبراً إياه بأنه تنازل عن حقه الشخصي في هذه القضية، وحثه على إيصال ذلك إلى الجهات المختصة في البلد المضيف.
رجل المبادئ
وبرغم أنه من المعروف أن كواليس الدبلوماسية والسياسة على مرّ التاريخ تتصف باتباع أساليب وطرق متعددة لتحقيق أهدافها بغضّ النظر عن الأخلاقيات والمبادئ؛ فإن سعود الفيصل أبى اللجوء لأي أساليب غير أخلاقية؛ فكان دائماً رجل مبدأ وأخلاق؛ حيث أسس نهجاً وأسلوباً خاصاً في كيفية قول الحقيقة بطريقة تُجبر خصومه قبل أصدقائه على احترامه؛ مستعيناً في ذلك بفصاحته وقوة حجته وإلمامه الواسع بالتاريخ والأدب والثقافة، مع تمكنه من إجادة لغات عديدة، وهو يعرف متى يجب أن يتحدث ومتى عليه أن يصمت؛ حيث عُرف عنه -رحمه الله- بلاغته وتميز اللغة التي يستخدمها لإيصال كثير من المعاني عند مداخلاته؛ مستشعراً دائماً حجم ومكانة وطنه وتاريخه الذي يمثله؛ لذلك كان يبتعد عن الملاسنات والمهاترات السياسية التي يمارسها بعض رجال السياسة.
جدية تُرهق محيطيه
وتميزت مدرسة سعود الفيصل بأنها مدرسة التضحية والصبر والجلد؛ فقد كان اجتهاد الفقيد وجديته وصبره وهمته كثيراً ما تُرهق المسؤولين والموظفين الذين عاصروه وعملوا معه خلال تأديته مهام عديدة كان يقوم بها؛ غير أن عزيمته كانت أكبر مُعين له، وتضحيته بوقته وعلاقاته الأسرية والاجتماعية وتحمّله الآلام والمرض، كانت أكبر دافع لهم للعطاء.
رفض الغزو الأمريكي
ويتذكر الجميع موقف الأمير سعود الفيصل الواضح والصريح عند لقائه بكبار المسؤولين الأمريكيين قبل غزو القوات الأمريكية للعراق، ومعارضته لذلك الغزو؛ مؤكداً أن هذا الغزو سوف يعرّض المنطقة لكوارث وأزمات قد لا تُحمد عقباها، ليس على العراق فحسب؛ بل سوف تشمل كل دول المنطقة، وقد يذهب أبعد من ذلك؛ علاوة على أن ذلك يشكل اعتداء على أمن وسيادة دولة مستقلة؛ مما قد يؤدي أيضاً إلى تنامي ظاهرة الإرهاب والتطرف والنزعة الطائفية، والإخلال بالنسيج الاجتماعي في المجتمع العراقي، وقد صدق فيما توقع رحمه الله؛ حيث أصبح العراق مصدر قلق لأمن واستقرار دول المنطقة؛ فضلاً عن مشكلاته الداخلية المعقدة.
استشعار المستقبل
وكان بقدرته وإحساسه العميق وإدراكه لتبعات هذا الغزو مصيباً فيما آلت إليه أحوال هذه المنطقة وأهلها، التي تُحتّم -كما كان يرى ويدعو دائماً- النظر في توحيد جهود أمتنا العربية والإسلامية فيما بينها، والتصدي للآفات والمخاطر العديدة بكل عزيمة واقتدار، ويشهد العالم للأمير سعود الفيصل بالحنكة وبُعد النظر واستشعار المستقبل، وهذا ما بدا واضحاً عندما احتل صدام حسين الكويت؛ فقد كان مناضلاً قوياً في الدفاع عن أمن واستقرار الكويت واستقلالها، والتصدي لسياسة صدام حسين التخريبية التي أدت إلى تدهور الأوضاع في المنطقة؛ مؤكداً أن أمن الكويت واستقلالها جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار المملكة العربية والسعودية، وأن ما قام به صدام حسين يُعد اعتداء سافراً على الكويت وأهلها، كما يُعد انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدولية، والشيم والقيم والأخلاق العربية والإسلامية.
وقوفه مع الكويت
وقد كان صلباً في جميع مواقفه في المحافل الدولية؛ معارضاً انتهاك سيادة وحرمة الكويت واستقلالها؛ مُفَنّدا ادعاءات صدام حسين الباطلة، ومعارضاً وبشكل قوي كل ما يتعرض لأمن واستقرار وسيادة الدول العربية، وفي الوقت نفسه يرى أن ظاهرة الإرهاب والتطرف ظاهرة غريبة على مجتمعاتنا ومبادئنا الإسلامية وتراثنا الحضاري، وأن الدين الإسلامي هو دين التعاون والتسامح والوسطية ونبذ الإرهاب والعنف، وإقصاء الطرف الآخر؛ مؤكداً حرمة الإنسان وكرامته وصون حقوقه.
يكافح الإرهاب
وفي هذا السياق، كان له -رحمه الله- دور بارز وإسهام كبير في عقد أول مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب في مدينة الرياض عام 2002م، الذي أكد أن هذه الظاهرة الخطيرة تتطلب جهوداً كبيرة وتنسيقاً دولياً للتصدي لها، وهذا ما تبنّاه المؤتمر الدولي في البيان الذي صدر عنه؛ مؤكداً ضرورة التصدي للإرهاب بجميع أشكاله وصوره، وأياً كان مصدره، ومما نتج عن هذا المؤتمر إنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب تحت مظلة الأمم المتحدة، وكانت المملكة العربية السعودية من أكبر الدول المساهمة والداعمة لإنشائه.
مواجهة الصهيانة
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال مواقف الأمير سعود الفيصل المشهودة في الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومواجهة الاعتداء الصهيوني على فلسطين؛ فلم يترك أي مؤتمر إلا وركز فيه على ضرورة وأهمية الحل العادل الشامل للقضية الفلسطينية وفق الشرعية الدولية، ومن ذلك دوره الكبير في إطلاق المبادرة العربية التي تبنتها الدول العربية خياراً استراتيجياً سلمياً لحل قضية الشرق الأوسط، وهي المبادرة التي تعتبر امتداداً لمبادرة فاس العربية، التي قام بها الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- فكانت أول مبادرة عربية شاملة تسعى لحل النزاع العربي- الإسرائيلي؛ وفق الشرعية الدولية والاتفاقات الإقليمية مع الحفاظ على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتحقيق الأمن والاستقرار لدول المنطقة.
أسلحة فتاكة ونعرات
وفي إطار جهود الفيصل المعروفة في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، تجلت قناعته بأن تحقيق ذلك لا يتأتى إلا بالإدراك والاعتراف بحق دول المنطقة في العيش بسلام وأمن وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وأن هذا النهج لا يمكن الوصول إليه عن طريق امتلاك الأسلحة الفتاكة والتدخل في شؤون الدول الأخرى وإثارة النعرات الطائفية البغيضة.
ضد “الملالي”
وما أكثر جهوده لإفهام القيادات في إيران أن تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة مسؤولية مشتركة واعتراف متبادل بالمصالح الحيوية والأمن الإقليمي لدول المنطقة؛ لهذا كان من أشد المعارضين للتدخل الإيراني في الشأن العربي؛ موضحاً على الساحة الدولية موقف المملكة الداعي إلى التوافق والتعاون لتحقيق الأمن المشترك وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والحفاظ على حماية ووحدة الصف الإسلامي أمام التحديات والمخاطر، والتعاون لتحقيق التنمية والنمو في منطقتنا التي تمتلك الكثير من الإمكانات والقدرات وعدم إهدار ذلك في نزاعات قد تنهك الجسد الإسلامي وتُبعده عن القيام بمهامه في وحدة الصف وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعه.
نزع الدمار الشامل
وأكد، في الوقت نفسه، أن امتلاك أي دولة بالمنطقة أسلحة الدمار الشامل لن يجلب الأمن والاستقرار للمنطقة؛ بل هي مدعاة إلى الكثير من الأزمات والمخاطر التي تهدد كيانه ووجوده وتطلعاته، وكان -يرحمه الله- يرى لزاماً على إيران وغيرها التخلي عن امتلاك أسلحة الدمار الشامل التي تهدد أمن وسلامة المنطقة؛ داعياً إلى جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل، كما شارك وبفاعلية في إعداد مشروع اتفاقية شاملة تهدف إلى جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل؛ غير أن موقف إيران وإسرائيل المعارض لمثل هذه الاتفاقية حالَ دون تحقيقها.
حقن الدم اللبناني
وفي إطار آخر، كانت جهوده -رحمه الله- المثمرة في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية من خلال مؤتمر الطائف الذي جمع بين الفرقاء في الشأن اللبناني؛ سعياً للوصول إلى قواسم مشتركة يتحقق من خلالها الاتفاق على حقن الدم اللبناني ورأب الصدع ولمّ الشمل، بمعزل عن أي مؤثرات أو تدخلات خارجية، وعودة الأمن والاستقرار إلى ربوعه؛ ليعود لبنان إلى مكانه ودوره الطبيعي في الأسرة العربية.