بلغت كمية المخلفات البلاستيكية في مشعر منى خلال أربعة أيام من حج العام الماضي (3765.1) طن، وبحساب بسيط، فإن تدوير هذه الكمية وإعادة بيعها يحقق عوائد بأكثر من ثلاثة ملايين ريال.
وإذا أضفنا للمخلفات البلاستيكية نظيراتها من الزجاج والكرتون والمواد الغذائية، فإن العوائد قد تصل لحاجز العشرين مليون ريال في الأيام الأربعة لمشعر منى، دون أن ندخل في حساباتنا المخلفات في مشعري عرفات ومزدلفة، ومكة المكرمة. ووصل حجم النفايات في المشاعر في حج هذا العام خلال خمسة أيام فقط 11 ألف طن، وفق إحصائيات أمانة العاصمة المقدسة.
وفي الوقت الذي تحقق فيه دول العالم المتحضرة أرباحاً بالمليارات من الاستثمار في تدوير النفايات، ففي الولايات المتحدة يمثل تدوير النفايات 28% من إجمالي الاستثمار الصناعي، بينما يصل في بريطانيا إلى 23%، ويقفز في ألمانيا ليصل إلى 35%، فإن المملكة تخسر سنوياً بسبب عدم تدوير النفايات التي تقدر ببلايين الأطنان ما يعادل حوالي أربعين بليون ريال سنوياً.
ولئن كانت النظافة إحدى أهم وأصعب المشكلات التي تواجه الجهات المعنية في كل موسم الحج، فإن الحلول لمواجهتها لم ترتقِ إلى مستوى المشكلة، رغم صرف مليارات الريالات من أجل الخروج بحج نظيف وآمن.
ولأن الحلول الصحيحة تبدأ من التجارب المبنية على الدراسات العلمية، فقد اتفق الأستاذ المشارك في قسم البحوث البيئية والصحية في معهد خادم الحرمين الشريفين الدكتور بسام مشاط، مع المهندس عبدالله السباعي مبتعث المعهد لتحضير درجة الدكتوراة في جامعة ليدز، على تطبيق فكرة تدعى مخيم الحج الأخضر بشكل تجريبي، الذي يقوم على فرز النفايات لإعادة تدويرها، بغية تحقيق أهداف صحية، وبيئية، وسلوكية، وحضارية، واستثمارية.
وأعلن معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج، بالتعاون مع جامعة ليدز في المملكة المتحدة، إطلاق البرنامج التوعوي البيئي الأول تحت شعار «تصدق بها.. لا تلقِها»، ضمن مشروع مخيم الحج الأخضر حج العام الماضي.
ويهدف المشروع وفق صاحب الفكرة الدكتور بسام مشاط، إلى توعية الحجاج بأهمية المحافظة على نظافة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة. موضحاً أن الهدف من هذا البرنامج الذي طبق على ثلاثة مخيمات في مشعر منى هو توعية الحجاج بأهمية مفهوم تدوير النفايات للمحافظة على نظافة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، مبيناً أن عملية فرز المخلفات ستقلل من كمية المخلفات المتولدة في مشعر منى، وبالتالي تقليل كميات المخلفات التي ردمها في مرمى الأمانة، إضافة إلى أن تدوير النفايات التي تم فرزها له دور مهم في المحافظة على صحة بيئة المشاعر المقدسة، لأن تدوير النفايات المتولدة أثناء فترة الحج سيحد، أو يقلل، من التلوث البيئي الناجم عن تراكم هذه النفايات في بيئة المشاعر.
في حين أوضح المهندس عبدالله السباعي أن حجم المخلفات في مكة المكرمة سجل زيادة خلال الست السنوات السابقة بنسبة تقدر بحوالي 46.6%، حيث تعدّ هذه الزيادة مرتفعة إذا ما قورنت بنسبة زيادة حجم المخلفات في الدول المتقدمة، خلال 25 عاماً، التي تقدر بنسبة 28% تقريباً، ولذلك تظهر لنا أهمية مشاركة المجتمع، من حجاج ومواطنين، في التقليل من حجم المخلفات المتولدة في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
وبالرغم من محدودية مساحة مشعر منى، الذي يقطنه أكثر من ثلاثة ملايين حاج خلال مدة زمنية محدودة لا تتجاوز خمسة أيام من كل عام، إلا أن مشعر منى يعدّ مدينة عصرية عالمية متكاملة المرافق والخدمات، وتتيح للحجاج نمط حياة تتناغم مع متطلبات الحياة العصرية، ومع الثقافة المحلية والعالمية، ومع اتجاه معظم المدن العالمية العصرية إلى المباني الخضراء، التي لا تنتج أي ملوثات بيئية.
من هنا، فقد انبثقت فكرة مشروع مخيم الحج الأخضر (بمرحلته الأولى)، وذلك لوصول مشعر منى إلى مصاف المدن العالمية العصرية، حيث تهدف فكرة هذا المشروع إلى جعل مخيمات مشعر منى تتطابق مع المتطلبات البيئية، التي تتضمن كفاءة استخدام الطاقة والمياه ونوعية المواد المستخدمة في البناء، ونوعية البيئة الداخلية، وإدارة النفايات. والجدير بالذكر أن جميع متطلبات المباني الخضراء يمكن تنفيذها باستخدام التقنيات الهندسية الحديثة، باستثناء إدارة النفايات التي تحتاج بجانب التقنيات الهندسية الحديثة إلى سلوك حضاري ووعي بيئي لسكان هذه المباني الخضراء.
بيد أن صاحب المشروع الدكتور بسام مشاط، قال «ينبغي قبل الشروع في تبني مشروع مخيم الحج الأخضر أن يسبق هذا المشروع ببرامج توعوية غير تقليدية لتغير ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻡ ﻭﺍﻟﻌﺎﺩﺍﺕ الاجتماعية للحجاج عن مفهوم الإدارة الخضراء للنفايات الصلبة المتضمن التخلص الآمن من النفايات الصلبة وفق المعايير الدولية، التي تشمل الفرز الأوليّ للنفايات من المصدر بأنواعها المختلفة، ومنها النفايات العضوية، والنفايات القابلة للتدوير، مثل البلاستيك، والمعدن، والورق».
وأضاف «كما أن تطبيق معايير الإدارة الخضراء للنفايات الصلبة سيساعد في الوقت الراهن على تقليل ظاهرة تكدس النفايات في المشاعر المقدسة، التي بصددها وجه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، رئيس لجنة الحج المركزية، بالمعالجة الجذرية، وبأن لا تتكرر الصورة السلبية التي حدثت من تكدس النفايات في موسم حج 1431ﻫ».
وأبان أن المعهد نظم خلال موسم حج العام الماضي البرنامج التوعوي البيئي الأول تحت شعار «تصدق بها.. لا تلقِها»، لفرز النفايات البلاستيكية كمرحلة أولى ضمن مشروع مخيم الحج الأخضر (حج بلا نفايات)، بالتعاون مع جامعة ليدز في المملكة المتحدة البريطانية، ووزارة الحج، ودعم من شركة معادن للذهب، ومؤسسة هدية الحاج والمعتمر الخيرية، بالإضافة إلى بيت الخبرة العالمية لصحة وسلامة الغذاء، وبيت الخبرة.. البيئيون للاستشارات والدراسات البيئية.
وأوضح مشاط أن عملية فرز النفايات من المصدر تعدّ إحدى الطرق المتبعة عالمياً للتقليل من حجم النفايات المتولدة إلى أقل قدر ممكن، ولذلك فإن مشروع مخيم الحج الأخضر (حج بلا نفايات) يهدف إلى توعية الحجاج بأهمية الفرز والتخلص الصحيح من النفايات في المشاعر المقدسة (مشعر منى)، بالإضافة إلى تعزيز البُعد التوعوي لدى الحجاج، وبما يُسهم في المحافظة على نظافة المشاعر المقدسة، وتقليل حجم النفايات، ما يساعد على تحسين الواقع البيئي للمشاعر المقدسة.
ولفت مشاط إلى أنه تم تطبيق التجربة في ثلاثة مكاتب من مجموعات الخدمة الميدانية في مخيماتها في مشعر منى، كما تم إعداد البرنامج التوعوي البيئي، وإنتاجه وتنفيذه وفقاً لرؤية جديدة، ومسار علمي وإعلامي شرعي له علاقة بالتواصل الأمثل بين فريق العمل الأكاديمي المتعاون مع البرنامج، وإدراك الحجاج المستقبلين توجيهات الفريق، عبر خطة لها رسالة وأهداف وقيم محددة يتم التعامل معها وفق برنامج زمني. حيث يتم إيصالها للحجاج عبر فريق عمل متخصص، ووسائل معروفة وحديثة، ومن أبرزها طباعة ونشر وتوزيع 15 ألف مطوية، بالإضافة إلى تسليط الضوء الإعلامي على أهمية الشروع عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، والإشادة بدور جميع الجهات الداعمة ومؤسسات الطوافة ومكاتب خدمة الحجاج التابعة لها، التي تبنّت المشروع.
وكشف مشاط عن نجاح مشروع مخيم الحج الأخضر (حج بلا نفايات)، وبنسبة تفوق نسبة النجاح المتوقعة قبل المشروع، نتيجة تعاون حجاج بيت الله الحرام في مخيماتهم في مشعر منى، موضحاً أن معظم الحجاج فرزوا نفاياتهم البلاستيكية في مخيماتهم في مشعر منى، محافظةً على نظافة المشعر، وكانت نسبة الفرز متفاوتة بين المخيمات الثلاثة التي طبقت المشروع، حيث أشارت أهم نتائج المشروع إلى فرز الحجاج المصريين (1500 حاج) التابعين لمكتب الخدمة رقم 12 التابع للمؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج الدول العربية، ما يقارب 155 كيلوجراماً من النفايات البلاستيكية، التي تشكل نسبة 19.5% من إجمالي النفايات البلاستيكية التي أنتجها المخيم، التي تقدر بحوالي 795 كيلوجراماً.
في حين كان فرز الحجاج الأوروبيين (5800 حاج) التابعين لمكتب الخدمة رقم 25 التابع للمؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج تركيا ومسلمي أوروبا وأمريكا وأستراليا، ما يقارب مائة كيلوجرام من النفايات البلاستيكية، التي تشكل نسبة 12.9% من إجمالي النفايات البلاستيكية التي أنتجها المخيم، التي تقدر بحوالي 777.8 كيلوجرام.
وخلص فرز نفايات (2800) حاج باكستاني تابعين لمكتب الخدمة رقم 66 في المؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج جنوب آسيا، ما يقارب 603 كيلوجرامات من النفايات القابلة للتدوير (بلاستيك، ورق، كرتون، نايلون، قصدير، علب مشروبات.. إلخ)، التي تشكل نسبة 15% من إجمالي النفايات المنتجة من المخيم، التي تقدر بحوالي أربعة أطنان. كما اتضح عند تصنيف النفايات المفروزة أن وزن النفايات البلاستيك يقدر بحوالي 34 كيلوجراماً، أي بنسبة 5.6% من إجمالي النفايات التي فرزها الحجاج في المخيم، ونسبة 11.5% من إجمالي النفايات البلاستيكية المنتجة في المخيم، التي تقدر بحوالي 294.6 كيلوجرام.
وأبان مشاط أنه تم إعداد البرنامج التوعوي برؤية علمية إعلامية اجتماعية شرعية، فقد كان يحمل الخطاب الإعلامي لهذه الحملة بعض المبادئ الثابتة لدى الحجاج، من أجر وفضل إماطة الأذى من المشاعر المقدسة، وثواب كفالة الأيتام، وإعمار المساجد، من خلال التبرع بريع قيمة النفايات البلاستيكية المفروزة.
ووقفت بعض التعقيدات في طريق التوسع في تنفيذ المشروع حج هذا العام بعدما تعهدت المؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج جنوب آسيا بتنفيذ المشروع داخل مخيماتها، وبرر نائب رئيس المؤسسة الدكتور رشاد حسين، عدم تنفيذ المشروع لوجود بعض المتغيرات، مبيناً أن المؤسسة هيأت الأرضية لتنفيذ المشروع، مشدداً على أن المؤسسة تدعم أي مبادرة، وتنفق عليها، وتطورها، بما يرتقي بالحج ويجعله مثالياً وصحياً على المستوى البيئي.
وأرجع الباحث في معهد خادم الحرمين الشريفين، ومنسق المشروع في مؤسسة مطوفي جنوب آسيا، الدكتور عاطف أصغر، عدم تنفيذ المشروع لعدم رغبة الجهات العاملة في الحج بتغيير خططها من أجل تنفيذ هذا المشروع الأوفر مالياً والأكثر جدوى، مشيراً إلى أن الأم في حاجة لتضحية من الجهات المعنية بنظافة المشاعر ببعض خططها من أجل مواصلة هذه التجربة التي حققت في عامها الأول نجاحاً كبيراً، مطالباً بضرورة تعاون كل الجهات العاملة في الحج لإنجاح المشروع من خلال التضحية ببعض خططها والتوسع في التجربة.
وفي وقت أشار فيه الباحث الدكتور بسام مشاط إلى أن المشروع عُرض على الأمانة، فرُفض، تبرّأ أمين العاصمة المقدسة الدكتور أسامة البار، من القصور في عدم دعم تنفيذ المشروع، مؤكداً أن المشروع لم يُعرض عليهم، وقال «نحن نرحب بفكرة أي مشروع مجدٍ يُسهم في نظافة المشاعر التي تعدّ الهاجس الأكبر لدى كل الجهات المعنية بالحج، مشدداً على أن الأمانة تدعم أي مشروع يُسهم في الرفع من مستوى الإصحاح البيئي.
ورحبت مؤسسات الطوافة بتنفيذ المشروع، وقال رئيس المؤسسة الأهلية لمطوفي تركيا ومسلمي أوروبا وأمريكا وأستراليا طارق عقاوي، إن المؤسسة لا تمانع في تنفيذ المشروع في مخيماتها، وتوعية الحجاج بضرورة تطبيقه. وأكد على حديثه رئيس المؤسسة الأهلية لمطوفي حجاج الدول العربية فيصل نوح، مشدداً على أن المؤسسة تسعى للإسهام في المحافظة على نظافة المشاعر، والخروج بحج نظيف ومثالي على كل المستويات، ومن أهمها المستوى البيئي.
وتؤكد المدير التنفيذي لجمعية البيئة السعودية الدكتورة ماجدة أبو رأس، أن تطبيق المشروع سيحقق عدة عوائد أولها على مستوى نظافة المشاعر، ورفع مستوى الوعي البيئي من خلال تخصيص أوعية نفايات للبلاستيك، وأخرى للزجاج، وثالث للكرتون، ورابع للمواد الغذائية، ما يجعل تدويرها أفضل من ردمها، صحياً وبيئياً. وأضافت أبو رأس أن تجارب البيوت الخضراء نجحت نجاحاً باهراً، مستشهدة بتطبيقها في حيَّين من أحياء جدة، مع نسبة تجاوب كبيرة من الناس.
وألحّت أبو رأس على ضرورة التوسع فيها في السنوات المقبلة، وفرض غرامات على المخيمات التي لا تلتزم بهذه الطريقة،لافتةً إلى أن العوائد الاقتصادية من تدوير النفايات ستكون كبيرة، داعية لإنجاز دراسة حول أهمية التجربة وعوائدها لإقناع المسؤولين بتطبيقها.
وهنا يوضح الدكتور بسام مشاط أن المشروع نجح بنسبة 17%، وهو نجاح باهر، حيث كان من المتوقع أن لا تزيد نسبة النجاح عن 2 إلى 3%، خصوصاً أن كثيراً من الحجاج من كبار السن الأميين، أو ضعيفي التعلم والثقافة، وهذا يعني أنه إذا تم تعميم المشروع على المشاعر بهذه النسبة نفسها سيقلل من كمية المخلفات البلاستيكية بحوالي 666.4 طن في المشاعر، وتدوير هذه الكمية يحقق عوائد قد تصل إلى أربعة ملايين ريال تقريباً فقط على مستوى البلاستيك، ناهيك عن باقي أنواع المخلفات الصلبة والسائلة، مشيراً إلى أن المشروع ليس مكلفاً، ويحتاج لأدوات بيئية لتنفيذه، مؤكداً أن تكرار التجارب والتوسع فيها سيُسهم في رفع نسبة الوعي وتقليل المخالفات ورفع قيمة التدوير، مطالباً بالالتفات لمثل هذه المشروعات ودعمها، لرفع مستوى الإصحاح البيئي في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
دعا عضو هيئة كبار العلماء، عضو المجلس الأعلى للقضاء، الدكتور علي الحكمي، إلى تبني هذا المشروع وتنفيذه.
وقال: كما هو معلوم، إن الإسلام دين النظافة، فالمسلم مأمور بنظافة نفسه، وبدنه، بل إن النظافة تعدّ جزءاً من الإيمان».
وأضاف «في موسم الحج يتجلى السلوك الحقيقي للمسلم، ومن ذلك المظهر الحضاري للإسلام الداعي إلى نظافة البيئة، مؤكداً أن كل الآيات والأحاديث دعت للمحافظة على نظافة البيئة، كما قال عليه الصلاة والسلام «إماطة الأذى عن الطريق صدقة». وقوله «إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة»، والحديث مرفوع.
وأكد الحكمي أن أفضل المشروعات هي التي تعين على الطاعة، وتحقق المصلحة، وفيها خير للحجاج، داعياً كل الجهات إلى التعاون لتنفيذ المشروع، وتحقيق المقصود من (الحج عبادة وسلوك حضاري).