في رمضان الماضي حضر أسامة صرصور إلى محافظة عفيف ، وقرأ على المصلين بجامع مشهور مقتطفات من أحد الكتب ، وكان الأمر عادياً ، فقد تعود الناس على رؤية الشاب الفلسطيني الملتزم ، واستأنسوا وجوده بينهم ، وتردده على المحافظة التي غادرها قبل سنوات ، فهو في النهاية أحد أبناءها ، وشبابها أصدقاء له وزملاء ، لكن الغير عادي هو الخبر الذي أعلنته وزارة الداخلية الاثنين الماضي والذي تضمن الإشارة إلى القبض على هذا الشاب ومعه شباب آخرين من نفس المحافظة .
وقع الخبر كالصاعقة على كل من يعرف أسامة وأقرانه ، ومن جالسه ودعاه لمنزله أو جلس بجواره في الصف الدراسي ، أو تعامل معه بحسن نية في أي أمر من أمور الحياة ، فهذا الشاب اللطيف كما يظهر لهم ، يقف على رأس قائمة إرهابيين هددوا أمن البلاد والعباد ، خانوا الأمانة وخالفوا الجماعة ، نقضوا العهد وبايعوا الشيطان.
بعد ساعات من إعلان الداخلية سرت قوافل الشائعات تجوب أرجاء المحافظة ،وساد المجالس أحاديث هامسة عن داعش وتنظيمها وجنودها من أبناء عفيف ، أسى وحزن في منزل القريب والصديق، ونظرات شفقة وشك تلاحق كل من له صلة بالمقبوض عليهم ، وتسريبات غير موثوقة عن مداهمة لمنزل فلان واستراحة فلان ، وقرينة جديدة تؤكد أن هناك أمر سوء يحاك ضد أبناءها من قبل بعض أبناءها ، في ذلك المساء نامت المحافظة حزينة عابسة قلقة ، وبقيت الأسئلة الصغيرة ساهرة تبحث عن إجابات مؤهلة لملء بطن التساؤل الأكبر الذي يظل قائماً في شارع عفيف : من يقف وراء دعشنة شباب المحافظة ؟
لم تكن هذه الليلة هي الأولى التي تعيشها المحافظة مع آثار خبر صادم كهذا ، فمع خروج داعش والدعوات السرية لتأييدها وقعت عفيف أسيرة في قبضة المروجين لفكر داعش ، ونفر عدد من شبابها إلى سوريا ، وأعتاد مجتمعها الهادئ أن يصحو أو ينام على وقع خبر مزعج مربك كهذا ، ففي عام 1434 هـ ، رمى ابنها ممدوح نشأ المطيري ? الذي كان هادئاً يوم كان في الطريق السليم ? بجسمه المفخخ على منفذ جديدة عرعر ليخر صريعاً وهو يحمل بيعة في عنقه لشيطان داعش ، ثم عاد عقاب معجب العتيبي في جمادى الثانية من العام الحالي ليبث الرعب في قلوب أهله وذويه وأصدقاءه عندما خبأ أسلحة التنظيم الإرهابي في رمال عفيف الطاهرة على أمل العودة لها والياً كما صور له خياله المريض ، إلا أن قوات الطوارئ اقتادته مخفوراً ذليلاً قبل أن يحقق بعضاً من أحلامه وأمانيه. وليت الأمر انتهى عند هذا الحد ، فهاهو أسامة صرصور، وزميله خالد مشعل العتيبي يطلان بوجوه بائسة شاحبة عبر شاشات التلفزيون كمطلوبين ويقدمان أنفسهما أضاحي وقرابين للتنظيم المخذول.
ليس هؤلاء فقط ، فقبل أشهر طوقت قوات الطوارئ مداخل المحافظة ومخارجها ، وغادرت حافلاتها بمجموعة من الشباب، وقبلها بفترة ألقت القبض على آخرين ، والحقيقة أن إجراءات الداخلية الاحترازية كشفت أن شريحة ? ليتها قليلة- من أبناء المحافظة وقعوا أسرى في حبائل تنظيم الشر والدمار، غير أولئك الذين ذهبوا إلى سوريا ، وهم مابين طلاب جامعيين ومبتعثين وطلاب ثانوية ، قرابة الـ 20 موقوفاً تحتفظ الصحيفة بأسماءهم !
في الشارع طيلة الأيام التي تلت الإعلان ، تبحث في عيون الناس عن إجابة ، لكن الوجوة سرعان ماتغيب حين تطرح السؤال ، لا أحد يريد أن تسأله عن أسامة وخالد ، الكل يريد البراءة منهما ، حتى أقرب الناس إليهم ، لايريد أن يرتبط اسمه بهما ، تتجه إلى شبكة الانترنت الكل يندد ، والكل يهرب من الإشارة إلى موقف جمعه بأحدهما؛ رغم أنهما بالأمس القريب كانوا معنا يسيرون في نفس الطرقات ويرتادون نفس الأسواق، لكن فعلتهما كانت أكبر من كل التوقعات ، وأعصى على الفهم والاستيعاب ، وذنبهما لايمكن غفرانه ، هكذا كان المشهد في شارع عفيف بعد الإعلان.
هناك دواعش في مدن أخرى ، لكن من يعرف عفيف ومجتمعها الصغير المتقارب، يرى أن تدعشن عدد من شبابها أصبح مؤهلاً ليكون ظاهرة تستحق التوقف، وطرح الأسئلة ، والغوص في تفاصيل التفاصيل لإخراج الفاعل المستتر الذي تقديره : المروجون لتنظيم داعش.
يغلب المجتمع السعودي في عمومه طابع التدين الفطري الذي يمتزج مع الانتماء القبلي في بعض المدن ليشكل بيئة خصبة لانتشار الأفكار المتطرفة ، ومن هنا يتسلل دعاة الضلال إلى عقول الشباب ، فيخاطبون العاطفة الدينية ، ويستنهضون الحمية والنخوة القبلية ليثيرا عنصران رئيسيان في أي عمل يتطلب الاقدام والمغامرة، وفي عفيف لا شئ أسهل من استثارة فتى يافع واستفزاز مشاعره للدفاع المزعوم عن الدين والدولة التي يؤمن بها منظرو تنظيم داعش المتوارين عن الأنظار، فالمجتمع شبه الريفي أكثر عرضة للإيمان بالفكرة الحماسية من المجتمع المدني ، وطبيعة المنطقة الصحراوية المفتوحة تسهم في تشكيل عقول ونفوس إنسانها فتجعله مرحباً بكل ضيف قادم ، حتى لوكانت فكرة تحمل الهدم والتخريب.
في المساجد والمدراس والتجمعات المعروفة هناك ، نعرف الأئمة والخطباء والمعلمين ، ونثق بهم ، ويخالطون مجتمعها في مناسباته وتعاملاته ، وتحركاتهم علنية ومعروفة وموثوقة ، ولكن ! جزء منهم غامض لانراه في مناسباتنا ولايصعد المنابر في أوقاتها المعلومة ، ولايتحدث في المدارس بمايثير شكوكنا ، لكنهم يعملون في الخفاء ، يتحركون بسرية تامة ، ويقيمون مناشطهم بعيداً عن أعيننا ، وهؤلاء هم من نشير لهم بأصابع الاتهام ، والحقيقة الأكثر مرارة أنه ليس بأيدينا تقديم الدليل عليهم ، فهم اختطوا لأنفسهم طرقاً لاتجمعنا بهم، هذا ملخص أحاديث الناس هناك.
ومايستطيع الأغلبية تقديم الدليل عليه هو أن هؤلاء الموقوفون ينتمون إلى أسر فاضلة ، خدم أفرادها الوطن والمجتمع في عدة مجالات ، نعرفهم فرداً فرداً يبطنون ويظهرون حب الوطن ، ويفخرون بالانتماء إليه ، من أبناءهم من يقف على حدود الوطن مدافعاً ، ومنهم من يقف في محاضن التعليم معلماً وبانياً ، لكن سموم الفكر الضال تسربت على أيدي فاعلين إلى عقول أبناءهم في جنح الظلام ، ولايزال من يغرس هذه الأفكار بعيد عن قبضة رجال الأمن ، ويستمر في نشر سمومه.
الإجابة على السؤال يمكن تلخيصها في حيرة تزداد حين تقترب من الوصول إلى الإجابة ، حيث لا أحد يستطيع الجزم بأن فلان الذي جالس هؤلاء الموقوفون كثيراً هو المحرض ، ولا أحد يعرف أين يجلس وكيل أبوبكر البغدادي الغامض ، ولا مفتي الدواعش المجهول ، حتى لو كانت جل القرائن تشير إليهم، لكن الشئ الوحيد الذي يمكن الجزم به : أنهم هناك ، حيث جاء خريجو مدرسة الإرهاب ، وحيث اجتمعوا مرات ومرات ، اما كيفية الوصول إليهم فهي مسألة ليست بيد المواطن ، كذلك الأدلة القاطعة غير متوفرة لإرسال بياناتهم إلى تطبيق ? كلنا أمن? !